بعد فترة من قراءة رسائل سينيكا، وضمن محاولة قائمة لقراءة مقالات ميشيل دي مونتين/مونتاني، وجدت نفسي اسأل هذا السؤال: هل عادت هذه القراءات ذات معنى؟
تداخل هذا السؤال في ذهني وأنا اقرأ رسالة دي مونتين في “كيف نعلّم الأطفال”، فإذا به يلمّح إلى معنى تعليم الطفل وهدفه: "على المعلّم أن يدرّب تلميذه أن "يغربل" كل شيء يتلقاه وألا يأخذ أي علم من مدخل الثقة في المعلم وسلطته". وألمح بعدها إلى تمكين الطالب من المقارنة بين أرسطو وأبيقور والرواقيين وأن يمكّن هذا التعليم الطالب من أن يضعهم أمامه، ثم يقرر بعدها أي طريقٍ يختار، أو أن يختار أن يستمرّ في الشكّ..!
تلك القراءات الكلاسيكية في نظري تتطلّب مهارتين رئيستين:
أن يكون لدى القارئ رغبة في دراسة هذه النظريات والأنماط من التفكير الجادّ والمتأني
أن يكون لدى القارئ مهارة أساسية وهي الصبر.
نترك الجانب الأول جانبًا قليلًا، ونقول في المهارة الثانية تحديدًا: هل أمكن مطالبة القارئ الحديث الذي لا يملك إمكانية السيطرة على وعيه "المتطاير" الذي تتجاذبه الوسائل والوسائط، بمحاولة القراءة الجادة لأفكار تكاد تكون غير ذات ثقل في فكره اليومي؟ لو فكّرنا في هذه المسألة قليلًا لوجدنا أغلبنا لا يملك 20 دقيقة من القراءة الجادة من دون أن يجد يده (أو يد عقله) تمتدّ دون وعي إلى شيء آخر، وأن يجد نفسه لا إراديًا في فكرة أخرى لا رابط بينها وبين ما يقرأه. لعلّ هذه الملاحظة مقرونة بالتجربة الشخصية: أكتب هذا المقال وأنا أفكّر في مقالة اقرأها، وإيميل أنوي كتابته، وشيء آخر أودّ البحث فيه، وفوق هذا: مكان سأذهب إليه بعد كتابة هذه الشاردة..!
نعود إلى فكرتنا: لعلّ تجربتي الشخصية تنبع من هذه المحاولة التي بدأت منذ ما يقرب عقد من الزمان مع ضياع الذاكرة الجادة والحضور الكامل، وما يطلق عليه Outsourcing of memory مع انتشار الهواتف الذكية. هذا التصدير لذاكرتنا وبطريقة أخرى أذهاننا قادنا إلى وضعنا الحالي، من محاولات وكتب ومحاضرات ومتخصصين في مهارة تكاد تكون مهارة واحدة ألا وهي التركيز. هناك جهد متخصص من علماء أعصاب وعلماء نفس، ومتخصصين في ذلك الهدف السرابي، ألا وهو “استعادة التركيز”، لذلك نجد ذلك البحر الذي يدعوك إلى Regaining your focus و كل ما يدور حول محاولات استعادة التركيز.
ما علاقة كلاسيكيات الكتب بهذا كلّه؟
تأخذنا هذه الكتب إلى حالة ذهنية تكاد تكون مفقودة، وتتطلب منّا مسبقًا إبطاء الذهن إلى حالة تأنٍّ قبل الخوض في غمار تلك الأفكار وحواضرها، ولكون تلك الكتب قد كُتبت في حالة ذهنية جمعية قد تكون أكثر استيعابًا للأفكار التي تناقشها، والعقول التي تخاطبها. هذا التأني لعلّه يقودنا إلى محاولة من استعادة الوعي المتطاير الذي نعيشه في واقعنا الحالي.
أحد نواتج هذه القراءات (رغم صعوبتها علي شخصيًا) هي في تلك المحاولة في استعادة التركيز، بعد سنوات من ضياع التركيز الجاد، وإمكانية التفكير العميق خصوصًا في ما يعقب الجائحة وما أتاحت لنا من وقت مع أنفسنا (سواءً أكان ذلك شيئًا إيجابيًا أم سلبيًا على الصعيد الشخصي). في نظري، هذه النافذة التي تفتحها هذه القراءات تكاد لا تقلّ أهميّة عن فحوى هذه القراءات نفسها.
أحد أهم اكتشافات الجائحة بالنسبة لي هي قراءة ديستويفسكي، وقراءة بعض ما كتب سينيكا. ولعلّ ذلك لم يكن ليأتي لو لم تأتي هذه الجائحة. تم إبطاء الزمن لما يقرب عامين، فتسارعت أفكارنا تسابق الزمن نفسه على وعينا، ولعل في هذا الأمر المفارقة العظمى..
السؤال الذي اطرحه الآن هو:
كم مرّة امتدت يدك إلى الهاتف، أو كم قادك ذهنك في اتجاه من الاتجاهات، وأنت تقرأ هذه الأسطر القليلة..؟
شخصيًا، كتبت هذا المقال في ما يقرب جلستين، وأمسكت هاتفي ما يقرب 15 مرة، وقطَعَت هذه الأفكار المتطايرة كتابة هذا المقال ما يقرب 8-10 مرات..
حتى مقالٍ آخر..
فيديو أعجبني مؤخرًا: ماذا تعني رياضة الجري بالنسبة لي (واعتقد للكثيرين غيري)، محاولة إبطاء الوقت إلى خطوة تلوَ الأخرى..